|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
التغيرات والتداخلات في الاتجاه السلفي
ثمة قضية أود التحدث عنها منذ مدة..عن هذه النقلة الفكرية، الثقافية، الدينية الظاهرة، الحادثة، الجارية في بنية المجتمع.. التي بدت أثرا عن التغيرات والتداخلات في المواقف الشرعية للاتجاه السلفي، وغلبة رؤى ومفاهيم اتجاهات أخرى مختلفة، أتيح لها استغلال الظرف أحسن الاستغلال.
تلك المواقف الذي أسهم حادث ضرب مركز التجارة العالمي 11 سبتمبر 2001 ، في إعادة صياغتها وفق اجتهادات خاصة، قضت بوجوب التغيير والمراجعة، تركت أثرها البارز في حركة المجتمع: الدينية، والثقافية، والفكرية. سواء في الحدود الشخصية أو العامة. في فترة مرت منذ عقدين وأكثر، كان هنالك شبه اتفاق على الموقف الشرعي من مسائل عديدة، تتعلق بالتوحيد، والسنة، والاقتصاد، والمرأة، كذلك في المسائل الشخصية، كإطلاق اللحية، وتقصير الثياب، يضاف إلى ذلك التصوير والموسيقى. وأشياء لا يعين المقام على سردها، وهي معروفة للمتابع، كان رأي الاتجاه السلفي فيها متقاربا، والخلاف قليل لا يكاد يظهر، ومن أكبر أسباب هذا الاتفاق؛ أن هذا الاتجاه كان يتبع جملة من المشايخ، اجتمعت عليهم الكلمة واتفقت وتآلفت، كانوا في هذه المسائل متقاربين، وما بينهم من خلاف يسير، لم يكن ليؤثر في المنهج ولا الاتباع. لم يمر العام 1421هـ حتى رحل جميعهم، فلم يتبق منهم أحد.. لم يقم مقامهم أحد، له تأثير كتأثيرهم الواسع المتجاوز للحدود والأقاليم، وكأن رحيلهم كان إعلانا ببدء تغيرات مرتقبة. حدثت حادثة القرن، واختلت صورة المنطقة العربية والإسلامية، فاحتلت دولتان هما العراق وأفغانستان، وصعد نجم الدولة الإيرانية، وغدت دول المنطقة مهددة عسكريا ومخترقة ثقافيا، واحتمل وحمّل الفكر والاتجاه السلفي كلاهما الوزر بكامله، ونسب إليه كل ما حاق بالمسلمين من مشكلات. وتنصل الآخرون من المسؤولية.. بعضهم أسهم في الحملة، بقصد وبدون قصد. وبه بقي التيار السلفي أو الوهابي، كما يسميه خصومه، وحيدا غريبا يتناوله الجميع من كل جانب؛ جانب الفكر، والسلوك، والفقه، والسياسة، والعقيدة. أبيح حماه، وصار كبش فداء، ومُنح مبغضوه الفرصة للنيل والغمص. لقد وجد نفسه مهددا حتى من بعض أبنائه؛ الذين تربوا في محاضنه، حيث لم يترددوا في الإسهام في الحملة - بقصد الإصلاح لا ريب !!! – مبررين فعلتهم بأنه من قبيل الإنصاف والاعتراف بالحق، وأن المنهج السلفي يقوم على: أن الرجال يعرفون بالحق، وليس الحق يعرف بالرجال. فانتقل بذلك عدوى التفرق، الذي كان حصراً بين الجماعات إلى التيار السلفي نفسه، فحصل التفرق فيه فكرياً، وفقهياً، ليس حزبياً؛ لأن من طبيعة الاتجاه السلفي، في أصل تكوينه، لا يقوم على الحزبية، (= الهيكلية التنظيمية)، بل هو اتجاه فكري منهجي، يتبع مذهب الصدر الأول في الدين، ولا يلزم المنتسب إليه، الانضمام إلى مجموعة أو جماعة منظمة، إنما يكون منه إذا لزم مذهب الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهكذا فإن أتباع الاتجاه السلفي لا يشترط بينهم، الاتصال الشخصي والجماعي، ولا الاشتراك في نشاط مشترك، غاية ما هناك: أنهم جميعا يتبعون منهجاً واحداً، كسائر المسلمين؛ الجامع بينهم الدين الواحد، والنبي الواحد، والإله الواحد. * * * تفاوتت الاجتهادات، واختلفت الآراء حين خرج من العباءة من صار ينتقد المنهج نفسه، وهو موقف فاسخ للنسبة من أصلها، فالمنهج لا ينتقده إلا من يرفضه. فما من مسألة إلا وحصل فيها إعادة نظر، تبعها تبني مواقف مضادة بالكلية، وفي بعضها جزئية، فالمسائل التي كان يظن فيها الثبوت الحكمي، عادت مسائل قابلة للنزاع والاختلاف، كان ذلك في جل أبواب الدين: • في الاعتقاد: - كاعتبار نصرة الكافرين على المسلمين من الكفر العملي. - وتميز أهل السنة بكونهم على الحق المنزل وحدهم، أصابوا في جميع المسائل بمجموعهم، وغيرهم أصاب وأخطأ. - وقد كثر الكلام في المولد النبوي، وطالب بعضهم إعادة النظر في الحكم عليه بالبدعة. • وفي قضايا المرأة: - في كشف الوجه؛ أنها خلافية، وأن الراجح القول بالكشف، وأنه قول الجمهور. - وتسويغ مشاركتها في النشاطات المختلطة. - والدعوة إلى ممارسة الرياضة في المدارس. - حتى قيادة السيارة، فالاتجاه الذي قام يوماً قومة رجل واحد في رفضه، صار اليوم بين مؤيد محبذ، وساكت، وهناك من لا يزال على الأول. • وفي المعاملات المالية: - اختلفت الفتوى في التأمين التجاري، وكان قد سبق الإجماع على تحريمه، بحسب المجامع الفقهية، كمجمع الفقه الإسلامي، وهيئة كبار العلماء. - ومثله في تجويز المساهمة في الشركات المختلطة، والمجامع العلمية الكبرى على التحريم. • وفي مسائل الحج: - ظهر الخلاف في الرمي قبل الزوال، والمكث في عرفة حتى الغروب. • وعلى الصعيد الخاص: - ظهر من يجوز حلق اللحية وسماع الموسيقى، ويكتب فيه المؤلفات المتضمنة أنواعا من الاستدلال، الكاشفة عن مهارة وفن نادر في طريقة استخراج الحكم المقصود، فمع الإقرار بصحة الآثار الناهية، فقد حملت على أوجه أخرى لم تكن على بال، فألحقت بباب الأخلاق، وأن الأمر في هذا الباب دائر على الندب لا الوجوب، وقد كنا من قبل نفهم الأمر بصورة أيسر من هذا، كنا نفهم: أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو للوجوب، إلا أن يصرفه صارف، لكن لسوء حظنا لم نفطن إلى هذا الصارف البديع (= النصوص في باب الأخلاق للندب لا الوجوب). وقد وافق على هذا بعض الفضلاء، وكلهم فضلاء نبلاء، وإن لم يكتبوا في ذلك شيئا حتى اليوم، ربما يكتبوه في يوم ما. أمور كثيرة برزت لم تكن معهودة، وفتاوى عديدة أظهرت قرنها، ربما كانت مستترة، وقناعات يبدو أنها كانت تبحث عن فرصة البُدُوّ، وإلا فهل يمكن أن يكون كل ما كان انقلاباً عارضاً، لأناس عرفوا بالفقه والعلم والتمكن، مع خبرة واسعة، وذكاء لا يخفى ؟. ليس بالضرورة أن يكون في هذا العرض، إشارة إلى اتخاذ موقف مضاد تماماً، في كل المسائل والمواقف، غاية ما هنالك أنه محاولة لوصف حال التيار السلفي، منذ بضع سنين، تحت المجهر. وليس المهم معرفة وجهة نظر فلان على التعيين، إنما المهم هو معرفة: أن تبني فكرة التغيير، وجعلها منهجا متبعا، وهدفا مقصودا لذاته. يضر بالمنهج نفسه، لا بالمسائل وحدها، فالمسائل متفاوتة، وبعضها تقبل الجدل، إنما الذي لا يقبل: أن يكون المنهج هو التغيير؛ لدافع خفي هو: مسايرة، ومواكبة، ومجاراة الواقع. لأنه حينئذ يحمل على التبديل، حتى من غير مبرر صحيح، ولا بدليل. لا أحد معصوم، فلا مشكلة في إعادة النظر في المسائل، ولا مانع من النظر في كتب المتقدمين من علماء السنة، والذين لهم قدم صدق، ولم يعرفوا بتبني بدعة، يتخذونها منهجا، والاستفادة من أقوالهم، وعرض أقوال المعاصرين من السلفيين عليها، لمعرفة مدى موافقة المتأخرين للمتقدمين.. لا مانع من ذلك ألبتة.. المانع يكون حين يتخذ النظر والإعادة لأجل تغيير حكم قد جرى، وقول قد عمل به، حينئذ يكون القصد هو التغيير، وليس طلب الحقيقة، وهذا المنهج يحمل على التكلف في استنطاق الأدلة، واستخراج الأقوال والآراء غير المألوفة، وتفسير الكلمات بأدنى صلة من معنى. فمن جعل هدفه ومنهجه التغيير، فإنه لن يتردد في تحميل الدليل ما لا يحتمل، ولن يتوانى في التشبث بأي قول سابق، ولو كان شاذاً، أو بارداً متكلفاً، أو استدلالاً غريباً، أو قولا عرفت به طائفة مبتدعة. وهكذا يلج صاحب هذا المنهج في باب اتباع المتشابهات وترك المحكمات، وقد علمنا ما جاء في هذا، وهو أمر لوحظ على أصحاب هذا المنهج، فكم من مسألة تكلموا فيها، فأفتوا بما يوجب تغيير الواقع الكائن، لا لأن الدليل هو الذي أوجب. ذهبوا به أوجه بعيدة جداً، لا يزال المرء في حيرة منها، فلم يكن يصلح دليلا لما ذهبوا إليه، لكنهم جروه معه جراً، وحمّلوه ما ينأى به عن حمله وينوء. أصبح الاتجاه السلفي على فريقين: أحدهما ينتهج التغيير، والآخر لزم مكانه. وفي طبيعة المنهج السلفي إنتاج أفراد متحررين من قيود الشيخ وسلطة الأستاذ؛ لأنه يربى أتباعه على اتباع الدليل، وترك الشيخ لو خالفه، وبهذا فإن كل من رأى نفسه قد تأهل، لم يجد حرجاً في أن يرد على هذا وهذا.. فإن أصاب فقد سلم، وإن أخطأ فقد تحمل. لكن ليس هذا حديثنا، إنما في تزايد شقة الخلاف وكثرة الأقوال بين أبناء الاتجاه، يعود من ضمن ما يعود إليه من أسباب، إلى السبب الآنف الذكر. والسبب وإن كان محموداً، لكنه قد يستعمل بإساءة، كمن صلى يرائي. * * * إذا كنا لا نبطل عملية النظر في المسائل، وفي الوقت نفسه ننعى على من جعل منهجه التغيير، فقد وجب أن نحدد، متى يكون الأمر إعادة نظر محمودة، وفي أي حال يتطور ليكون منهجاً بدعياً ؟. هي مسألة كبرى، ونحن نشير إشارات، والكلمات لا تحصى، وإنما هي كلمة.. إن إعادة النظر في المسائل لا يلزم منها نقد المنهج، بينما اتخاذ التغيير منهجاً، يعني إخضاع المنهج نفسه للتغيير، وهذا هو الخلل الكبير، فالمنهج هو الذي ميز الاتجاه السلفي، وجعل مكانه مكان المهيمن بالحق على جميع الاتجاهات، وأي تغيير فيه قضاء عليه. والاتجاه السلفي يقوم على: - إبراز أنواع التوحيد الثلاثة، خصوصاً الإلهي منها، وتطبيقها عملياً وعلمياً. - وإبراز السنة الصحيحة، والعمل بها، واجتناب إبراز الضعيف منها والعمل بها. - وتمييز الشرك والبدعة، من التوحيد والسنة. - والاعتناء بمعرفة حدود الولاء والبراء، وتطبيقهما عملياً بعناية بالغة؛ إذ هما من معاقد التوحيد - وتحديد مصدر التلقي في الكتاب والسنة بفهم الصحابة والصدر الأول من الأمة، وتقديمه. - ويمنع من تقديم العقل على النقل، بل يرى أن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، إنما يعارض لو نزلت مرتبة العقل عن وصف الصريح، أو مرتبة النقل عن وصف الصحيح. - ويمنع من العمل بالكشف والذوق والمنامات، واتخاذها مصدرا لتلقي الأحكام الشرعية. وأصول أخرى لا يتسنى المقام استيفاءها، إنما نذكر شيئاً وطرفاً مهماً منها، والقصد القول: أن هذا المنهج لا يمكن المساس به؛ كونه يمثل روح الدين وأساسه، الذي بني عليه، أما المسائل المندرجة تحته: - فمنها ما يكون أصلا كفعل الصلاة، والحكم بما أنزل الله، ووجوب العمل للإيمان، فهذه الخطأ فيها خروج عن الحق، وإن كان لا يلزم منه الخروج على المنهج. - ومنها ما يكون فرعاً، وهي أكثرها، كوجوب إعفاء اللحية مطلقاً، أو تحريم الإسبال مطلقاً، أو التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، فهذه لو أعيد النظر فيها للتحقق من سلامة الموقف والفتوى، فلا يظهر مانع من ذلك، ومثل ذلك الموقف من الواقعين في البدعة، وكيفية التعامل معهم، والتفريق بين مجرد الوقوع في البدعة، وتبني المناهج البدعية. إن دراسة هذه المسائل بقصد التحرير والتوصل إلى القول المحرر الصواب، لا شية فيها، خصوصاً إذا كان المعتمد في الفتاوى السابقة بعض الأقوال، التي كان لها حضور عارم، وهيبة يمنع من مراجعتها، إما احتراماً لأصحابها، أو خوفاً من مخالفتها، فربما لم تصب مذهب السلف بالدقة اللازمة، وهذا وارد؛ إذ يلاحظ في مسائل عدة: أن الاستدلال فيها بالمتأخرين المعاصرين، دون المتقدمين. إن كل ما تقدم هو محاولة لمعرفة الطوارئ التي طرأت على السلفيين، وتقويمها، ومعرفة ما ينبغي أن يتخذ، وما ينبغي أن يجتنب، ولم يكن الغرض الإحاطة، فذلك لا تكفيه إلا رسالة وكتاب. ونحسب أنه قد أثار شيئاً من حقيقة ما وقع ويقع، وقارب في بيان الصورة. فهذا ما يتعلق بالتغيرات، أما التداخلات فنرجئها إلى مقال لاحق (2/2) كان للاتجاه السلفي، بعمومه، موقفاً واضحاً من الاتجاهات المخالفة؛ الدينية، والطائفية، والفكرية. ونعني بالأولى: الديانات المخالفة للإسلام، الذين وصفهم القرآن بصريح الكفر، كاليهود والنصارى. وبالثانية: فرق الشيعة والمتصوفة دون غيرهما؛ للقرب والاختلاط والاحتكاك المستمر؛ إذ المجتمع، في العادة، يحوي جميع هذه الاتجاهات المتنافرة، بالحكم الجغرافي. وبالثالثة الاتجاهات: العلمانية، والليبرالية، والعصرانية. وهي اتجاهات فكرية حوت مجموعات وأفراداً من شتى التوجهات والانتماءات. هذا الموقف تجلى في المفاصلة التامة، أو بالتعبير الشرعي: البراء التام. من كل هذه الملل والفرق والمذاهب الفلسفية والفكرية. تفاصيل هذه المفاصلة بدت في اتخاذ المواقف الحادة مع هؤلاء المخالفين، حتى إنه ليبدو أنه لا قدر مشترك، يمكن أن يعول عليه في التقارب، أو التفاهم، أو حتى في الحجاج والإلزام. فالمخالفون في الملة والدين، وهم اليهود والنصارى خصوصاً- بحكم الارتباط التاريخي والديني – نالتهم المفاصلة التامة، وبالأخص النصارى منهما.. فعلى الرغم من عمق البغض تجاه اليهود، فإن كثرة اختلاط النصارى بالمسلمين، واحتكاكهم بالمصالح الإسلامية، ومواقفهم العدائية؛ من غزو واحتلال واستغلال، ابتداء بالحملات الصليبية، إلى استعمار البلدان الإسلامية، حتى اكتساحها بالغزو الفكري، كل هذه العوامل جعلت منهم محل تطبيق عملي لمبدأ البراء التام، فلم تظهر آثار هذا المبدأ بالصورة الجلية الواضحة، مثلما ظهرت مع هذا العالم النصراني؛ الأوربي والأمريكي بالأخص. وقد وجد التيار السلفي في النصوص الآمرة بالشدة والغلظة مع الكافرين، وبغضهم وترك موالاتهم بمحبة أو نصرة، وعدم بدئهم بالسلام، واضطرارهم إلى أضيق الطريق حين الالتقاء، وتصغيرهم كما صغر الله بهم، ونحو من هذا: مستندا في التدليل على صحة موقفه منهم. كما أن تاريخ وسجل اليهود والنصارى مع المسلمين قديماً وحاضراً، تقدم ذكرها إجمالا آنفاً، أضاف تأكيداً لما قررته النصوص – بكثرة – من عداوتهم تجاه المسلمين والدين الحنيف. وذلك بدوره عمق وأكد مبدأ البراء التام. وبهذا لم يكن من بد، واجباً شرعياً، أمام هذا التيار من إقامة صروح البراء التام تجاه المخالفين في الدين، حسب تقديره ورؤيته، وفي تفاصيل هذه الرؤية، عدم التفريق بين المحارب وغير المحارب، فمجرد الكفر يكفي لتوجه كافة أنواع البراء، على أتم درجة، وأعلى حد. ولعل الذي عمق هذا التوجه: كون كثير من المنتمين لهذا التيار قليلي الاحتكاك والمعاملة لهؤلاء المخالفين في الملة، إما لندرة وجودهم في ديارهم، كلا الفريقين، أو لتعمدهم التباعد عنهم، امتثالا للوصايا النبوية الناهية عن الإقامة بين المشركين، ومجامعتهم في المساكن. وقد لوحظ في الذين تعرضوا لمثل هذا الاحتكاك، بسبب السفر والإقامة في الغرب، أو غير ذلك: أن كثيراً منهم كانوا أقل حدة. في حال الفرق كالشيعة والصوفية، فإن المفاصلة والبراءة لم تكن بأقل درجة عما سبق تجاه المخالفين في الدين، خصوصا مع تلبس طوائف من هاتين الطائفتين بأعمال، هي من صريح الشرك بالاتفاق. كذلك فإن النصوص المحذرة من البدعة، القاضية بحرمان المبتدع من التوبة، ومن ورود الحوض النبوي، يضاف إلى ذلك: الأقوال والمواقف الحاسمة في الهجر، التي وردت عن الأئمة تجاه المبتدعة الأوائل، كالمرجئة والمتكلمة. كل ذلك أوجد مستنداً شرعياً في معاملة هذه الطوائف بتلك الطريقة؛ بالتباعد عنها وعن رموزها، والإحجام عن التعاون والمشاركة، بله الظهور معاً في محفل واحد، ففي تقديره: أن فعل أي شيء من هذا، يعد تنازلا وتزكية، ويعني بالضرورة التهاون في أمر البدعة. في الحين ظهرت مذاهب أوربية مستوردة، انتشرت في البلاد الإسلامية، هي: العلمانية، والليبرالية، والعصرانية. اتخذ التيار السلفي منها موقفا لا يقل وضوحا وحسما عما سبق، وعاملها بالطريقة نفسها، وربما زيادة؛ كونه رأى فيها خطراً ماحقاً؛ إذ الذين يحملونها أبناء الجلدة، يروجون للأفكار الإلحادية، المعادية للدين في بلاد المسلمين، بقصد التغريب، ونقل أخلاقيات الغرب إليها، ولهم في ذلك ترتيبات وخطط، هم في واقع الأمر رسل الغرب، والغرب يساندهم ويعينهم. والعصرانيون منهم خصوصاً، وإن خلصوا من تهمة الانتماء الغربي، غير أنهم ربما كانوا أشد خطراً؛ إذ منهم من هو منتسب للعلم الشرعي، وفي هيئة دينية، وهو يمارس تحريف الكلم عن مواضعه، تحت غطاء حاجة العصر، ويسر الشريعة. * * * تلك المواقف كانت معلنة غير خفية؛ إذ من استراتيجيات التيار: الوضوح والتجلية، حتى يتميز الحق من الباطل، فيستبين سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين. وذلك الهدف الأكبر لا يتحقق إلا من طريق المصارحة والمطارحة، ولو بالتجريح، وغير هذا ليس بممكن؛ إذ يتسبب في تعمية الحق والصواب عن الجموع العامة من المسلمين، الذين لا يميزون بين الاتجاهات بأنفسها، إلا بإرشاد وتوجيه، وهذه إن لم تصارح، وتوضح لها الحقيقة، فإنها لن تهتدي، وسرعان ما تضل طريقها. والمؤمن الحق هو الذي لا يحابي في دين الله تعالى، ولا يداهن في بيان الحق، والنصوص في هذا المعنى كثيرة جداً، في خطابات الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ، ويعرض عن مداهنة الكافرين. كان التيار متميزاً جداً، في كل شيء؛ في خطابه، ومصطلحاته، وأفكاره، وتوجهاته، وأهدافه، وإعلانه وإسراره، واضحاً على محجة بيضاء، ليلها كنهارها، بأفكار ومبادئ يقاتل دونها قتال الأسد، ويصونها بكل ما يمكن، لا يتردد في التضحية بكل شيء من أجل ذلك الهدف. عاش لحظة استغراق تام، وفناء كلي في مبادئه وأفكاره، لم يكن يسمح لأحد بأن يرتع حولها بشك أو ريبة، وإلا فإن ما سيأتيه سيكون قاسياً له ولغيره من بعده، وقد تسلم زمام النصوص من الكتاب والسنة تفسيراً وشرحاً، وأعاد للصحيح هيبته، فتفرد بنشر هذا المبدأ وعمل به، فلا يحتج في شيء إلا بالصحيح دون الضعيف، وفرض فهم السلف الصالح على النصوص، وحاكم إليه من حيث المنهج والأصل، وبهذا تملك زمام الحقيقة الشرعية، فهابته التيارات الأخرى، وتحاشت سطوته، ومن رام الوقوف والمعارضه لم يحسد على ما ينزل به، فالأحظى بنصوص الشريعة، كان الأحظى بالحقيقة، الأحظى بالهيمنة على ساحة الفتوى والتعليم. وهكذا انتشرت السلفية في أصقاع الأرض، فكثر أتباعها الذين يؤمنون بمبادئها في الاعتقاد والفقه، حتى وجدت لها أنصاراً في أقصى الأرض، يخلصون لها باعتبار أنها تمثل الإسلام الصحيح المنزل، بل لقد أوجدت أنصاراً لها ومتعاطفين داخل التيارات الإسلامية الأخرى، المناوئة بدرجة أو أكثر. وتوارى الآخرون، وهم يشعرون بالعجز عن مكافحة هذا التيار، وهو يستدل بالنصوص العارمة في بيان صحة مسلكه وفتاواه، وفساد مسالك وفتاوى الآخرين، في المسائل المختلف عليها. * * * ذلك الوضوح والحسم والصرامة والنجاحات، بدا وكأنه في حالة أفول منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، ربما ظهرت بوادر التغير قبل ذلك من قريب، لكنه لم يظهر جليا إلا منذ ذلك الحين. لقد تبدلت مواقف جناح في هذا التيار، كان له التأثير الواسع، وتبدلت جذريا في بعض المواضع، بذريعة المراجعة والتصحيح، تحت مطارق الاتهامات الآتية من الاتجاهات والقوى، التي حملت التيار وزر ما حاق بالمسلمين من أذى، جراء ضرب برجي التجارة العالمي بنيويورك. وأول وأكبر ما لوحظ في هذا، تغير الموقف من الآخر، المخالف في الملة أو الطائفة أو الفكر من المفاصلة التامة والبراء التام إلى غير ذلك، لا نقول إلى الولاء التام، لكن إلى التداخل والتقارب، والتفاهم، والمشاركة، والتعاون، ونحو ذلك مما يعني إلغاء الطريقة القديمة؛ الحدة والقطيعة. لم يكن هذا التغير معزولا عن المستند الشرعي، كما في الأول، فإن البحث والتنقيب، كذلك: قبول السماع من المخالفين، وتفهم مواقفهم، والجلوس إليهم. كان له دور في هذا التغير. والحامل على كل ذلك هو محاولة التخلص من التهم الموجهة تجاه التيار، ومعالجة الأخطاء، وإعطاء صورة مخالفة عما بدا عليه العقود الماضية. صعب على التيارات الأخرى تقبل هذا الوضع الجديد لهذا الجناح من التيار السلفي، ففي كثير من الحالات كان يرجح أنه موقف سياسي مصلحي، لا يكشف عن حقيقة النوايا. هذا الظن عمق لديهم النظرة السلبية تجاهه، "ففي الماضي كان يمارس دور الوصاية الدينية، والتبديع والتكفير، واليوم يمارس دور المتقرب المعتدل الوسطي، إنه تحايل سياسي في أحسن الأحوال".. هكذا يتهامسون، وفي بعض الحالات يعلنون. ومع ذلك فلسان حالهم، وأحيانا مقالهم: دعوهم، فإن ما نجنيه نحن من هذا التوجه الجديد، أكبر مما يحصدونه لفكرهم ومذهبهم. في الوضع الجديد لهذا الجناح، برز التفصيل في أنواع الكافرين، وما يستحقه كل نوع من البراء، فليس المحارب كغيره، وللذمي حقوقاً، وكذا المعاهد. وقد كان غائبا لا يكاد يعرفه إلا المختصون. والتعامل مع المبتدع والموقف منه، أمر مصلحي، فحيثما كانت المصلحة فثم الحق، فليس الهجر في كل الأحوال بنافع أو حتى مشروعا، وينبغي التفريق بين صاحب البدعة، والعامي إذا قارف بدعة. وفي أبناء الجلدة، المعجبين بالغرب، يجب ألا يساء الظن بهم كلياً، وألا ينظر إلى ما يروجونه ويدعون إليه، على أنه تغريب وإفساد. فهم مسلمون، وكثير منهم يقصدون التطوير وارتقاء الأمة، فطائفة مما ينادون به، هو من المباحات الجائزات، كقيادة المرأة للسيارة، وعملها خارج البيت، وممارسة الرياضة. والعصرانيون لم يكونوا مخطئين في كل حال، فكثير من فتاواهم قد ثبت صدقها، فهاهم الذين كانوا يرفضونها، ويجعلونها من التحريف في الدين، هم اليوم يأخذون بها، وينصرونها للتيسير الذي فيها. وفي ظل هذا الانقلاب في الموقف، ظهرت حالة جديدة، منسجمة تماما مع هذا التوجه، فإذا كان الموقف الفارط، موقف المفاصلة التام، يستدعي التميز في كل شيء، حتى لا يختلط الحق بالباطل، فالآن لا معنى لهذا التميز، وقد اعتدلت النظرة وتحسنت تجاه المخالفين، بسبب ذاتي لا غير، وعليه فلا مانع من التوافق في الأطروحات، فتكون القضية واحدة، والهم مشتركا في مسائل عديدة، كالوحدة الإسلامية، ومواكبة العصر، واعتبار حاجة التطور، وهذا التوافق في المواقف يحمل رغما على التوافق حتى في نوع الخطاب، والمصطلحات، وأسلوب الدعوة، والفتاوى ونحوها. هكذا بدأ التداخل بين هذا التيار والتيارات الأخرى، وإن شئنا الدقة، منذ هذه اللحظة بدأ في موافقة التيارات الأخرى في مصطلحاتها وأساليبها، وفتاواها، فلم يحصل تقارب بالمعنى الدقيق للتقارب؛ هذا يقترب من هذا، وهذا من هذا، يلتقيان جميعا في المنتصف.. كلا، بل ذلك الجناح من التيار السلفي هو الذي كان المتقرب، المتودد، الذي تخلى عن مصطلحاته، وركب مصطلحات الآخرين. - فبعد أن كان يتحدث عن عداوة الكافرين للمؤمنين، صار كلامه عن التعايش، والسلام، والمشتركات، واحترام قرارات الأمم المتحدة. - وبعد أن كان يتحدث عن بغض الكافرين، صار يتحدث عن لزوم محبتهم فطرياً وإنسانياً. - بعد أن كان يحذر من بدع التشيع والتصوف، صار يقرر أن ثمة أموراً مشتركات بيننا. - بعد أن كان يتحدث عن خطورة تغريب المرأة، وأدوات ذلك، غدا يكلمنا عن ظلم المرأة. - بعد أن كان يقرر وجوب خلو المعاملات المالية من أي شائبة للربا والمحرمات، بدا يفصل ويقرر مقدار المحرم ونسبته في المعاملات، وعليه يبني الفتوى. وأشياء أخرى لا يحصيها المقام، فهذه النظرة الجديدة ولد موقفاً جديداً، لقد دخلت تيارات كثيرة في نطاق الصداقة مع هذا الجناح من التيار السلفي، فنشأت بينهم مودة وإعجاب، كانت من جانب هذا الجناح أظهر وأكثر. وفي المقابل ساءت نظر بقية التيار لهذا الجناح، فأكثرت من العويل عليه، والتحذير من مسلكه، واعتباره منقلباً على المنهج نفسه، ذلك ولد موقفاً مضاداً حمله على الجفاء إلى حد الامتعاض، بل وفي بعض الحالات القطيعة والهجر. فبعد أن كان الهجر بين التيار والتيارات الأخرى، إذا بهذا الجناح يجافي بني مذهبه، ليصل ويلتقي مع الذين كانوا محل هجره وقطيعته بالأمس. ما كان يخافه التيار بالأمس قد وقع.. انتهى عهد التميز، خصوصاً مع سكوت بقية التيار الملتزمين السنة الأولى، عن الكلام في كثير من القضايا، إما حذرا وإما كسلا ويأسا. وهكذا صار كثير من الناس لا يفرقون بين سلفي المنبت والمدرسة، والصوفي، والليبرالي، والعصراني، فكلهم يتكلمون في القضية الواحدة، التي كانت محل نزاع وتنافر وهجر، كلمة رجل واحد، بلغة واحدة، وهدف واحد، وأسلوب ومصطلح واحد.. حصل التداخل. ما فرح أحد بهذا مثلما فرح الآخرون؛ إذ رأوا في هذا المسلك قضاء على سطوة التيار في فهم الإسلام وتفسير النصوص، وخدمة لأهداف لطالما ضحوا من أجلها، في قضية بدت لهم وكأنها خاسرة، هي اليوم تخدم من قبل التيار المهيمن. لقد كان من الحجج: أن الوضع الراهن يحتاج إلى مزيد من اليسر، وإلا فإن الناس ينفرون من الدين، ويبقى بلا أنصار. ونكون بذلك جنينا على الدين. لكن البقية رفضوا هذا التحليل، ورأوا أنها فرصة فوتت وضيعت، فحيث كافح هذا التيار ليقول كلمة الحق جلية، وجاهد من أجلها وضحى، فلما انجلت الأمور، وصارت الكلمة ميسرة، والحرية واسعة، والناس في عطش، واستعداد لصعود الجبال، لما يجدونه من ألم الروح وعذاب البعد عن الله تعالى، إذا بهؤلاء الميسرين المجددين يمتطون التعمية، والإغماض في المواقف، فصاروا كمن يشكوا ظلام الليل، ومشقة السير فيه، فلما تجلى له النهار عن شمس ليس دونها غيم: سكن، فلم يتحرك، وإذا ما تحرك، فللتخفي عن الأنظار. كثير من المراقبين يرون أن السلفية بكافة تياراتها، الملتزمة بالطريقة الأولى، والسائرة في طريقها الجديدة، فوتت على نفسها فرصة استغلال حرية الكلمة، والفضاء المتاح، المتصل بأجزاء العالم كله، لِبَثِّ رؤيتها ومذهبها، مع شدة حاجة الناس إليها، في ظل التخبط الذي يعيش فيه العالم. فأما الملتزمة فسكوتها غير المبرر، ولو كانت تبررها، أضاع عليها الفرصة، وأما المجددة فتركها لمصطلحها ونوعية خطابها إلى نوعية ومصطلحات الآخرين، خدم مصلحة وأهداف الآخرين لا مصلحتها، إلا إن كان منها من تنكر كليا للمذهب الأول، فذلك أمر آخر. ولا يزال الناس، يعظمون الصراحة والوضوح، ويمقتون التعمية والغبش، ويعتقدون أن كل من كان واضحاً صريحاً، فهو الجدير بالاحترام، والاتباع كذلك. وفي المذهب السلفي كل شيء يمكن إبرازه، وتوضيحه من غير خجل، ولا الخوف من النقد، فهذا المذهب هو الذي يرجع بالفقه إلى الصحابة والقرون المفضلة، وهؤلاء هم أولى الناس بمعرفة الإسلام وتفسيره كما أراد الله تعالى، وهكذا فإن حقيقة المذهب السلفي: أنه التفسير الصحيح للإسلام، بشرط أن يلتزم المنتسبون إليه فقه الصحابة، وإلا فالألقاب لا تقدم ولا تؤخر. لم يكن الكلام السابق نقداً، بقدر ما كان عرضاً لواقعة وقعت، فالموقف السلفي الأول عليه، في بعض الأمور، ما على التالي الجديد، فقد أصاب وأخطأ، وإن كان صوابه أكثر، وإذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث، وإن كان ذلك لا يمنع من الفحص والبحث، لكن النقد يتجه على الطريقة التي تحكم على نفسها بالغياب، عندما تترك لونها وتلون نفسها بألوان الآخرين، وتستبدل صورتها بصور الآخرين، فتضعها في إطار تصنعها، وما يصنع الناس بالإطار، وإنما العبرة في الصورة. إن استعمال المفاصلة التامة الحادة في كل مقام، مع جميع المخالفين، باختلاف أنواعهم وأقسامهم خطأ جلي محض، وتعطيلها كلياً كذلك هو خطأ، والحكمة: معرفة متى ينبغي تعطيلها كلياً أو جزئياً، ومتى يمكن إعمالها كلياً أو جزئياً. وصفتها موجودة في القرآن والسنة والسيرة،. وتميز أهل الحق بكل ما يميز ويظهر الحق الذي عندهم أمر واجب، وإلا فإنه يضل ولا يهدي، فإذا ما انماع أحد في أحدهما ( = المفاصلة التامة، أو تعطيل المفاصلة كلياً) فإنه يضر ضرراً بالغاً. إن الكلام في هذا كثير وطويل، وحسبي أني ألقيت حملاً كان ينوء به قلبي وصدري، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم. د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه |
26/10/2008, 02:19 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
مـهـند س مـحـتـرف
|
رد: التغيرات والتداخلات في الاتجاه السلفي
مشكووور حبيبي
|
||||
2/11/2008, 04:19 PM | رقم المشاركة : ( 4 ) | |||
مـهـند س مـاسـي
|
رد: التغيرات والتداخلات في الاتجاه السلفي
مشكوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووور waled_2010_12
|
|||
1/4/2009, 09:10 PM | رقم المشاركة : ( 6 ) | ||||
مـهـند س مـاسـي
|
رد: التغيرات والتداخلات في الاتجاه السلفي
مشكووووووووووووووووووووووووووووووور
|
||||
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
Google Adsense Privacy Policy | سياسة الخصوصية لـ جوجل ادسنس
^-^ جميع آلمشآركآت آلمكتوبهـ تعبّر عن وجهة نظر صآحبهآ ,, ولا تعبّر بأي شكلـ من آلأشكآل عن وجهة نظر إدآرة آلمنتدى ~