أحبَّ بنت الجيران وعندما قالت له

[alimahmed]

أحبَّ بنت الجيران وعندما قالت له
«لازم تاخذ شهادة جامعية لو عايز تتجوزني» :
تركها ورد عليها هتعرفي في يوم من الأيام إني أهم من أي شهادة»!

كان صلاح جاهين يقضي أغلب وقته في القراءة خاصة وأنه عندما التحق بالروضة في مدرسة «الكلية الأمريكية» بمحافظة أسيوط لم تكن موهبته في الرسم قد اكتشفت - أو بمعني أدق انفجرت- بعد أن ظلت حبيسة عقله ووجدانه حتي بلغ عمره 14 عاما كان قبلها «أخيب تلميذ في الرسم» - علي حد وصف شقيقته - وكانت درجاته في الرسم لا تزيد عن 4 درجات من عشر لأنه كان يرسم من خياله ولا يلتزم بتعليمات مدرس الرسم مما جعل أحد المدرسين يعطي له صفراً بينما المفروض أن يمنحه الدرجة النهائية، وظلت أزمته مع الرسم قائمة حتي جاء مدرس جديد للرسم يدعي أستاذ
«أرناؤوطي» ذلك المعلم الذي نحَّي المقرر جانبا ولم يفرض علي التلاميذ رسم موضوعات الطبيعة الصامتة «من شجر وبيوت» التي كان يكرهها جاهين واستوعب هذا الأستاذ عقلية الأطفال وأخذ يحكي لهم بعض القصص الخيالية وقصص الأدب العالمي التي كان يهدف منها إلي كسر جمود الرسومات التقليدية التي اعتاد عليها التلاميذ وهنا وجد التلميذ محمد صلاح متنفسا لقدراته الفنية الحرة التي لا تعترف بالمحفوظات والقوالب النمطية لذلك عندما طلب المدرس رسم «غابة تهب عليها الرياح» كانت تلك الرياح بمثابة مولّد الكهرباء الذي أضاء الطريق أمام موهبة جاهين التي هبَّت بعد سنوات - ليست طويلة - رياحها علي فن الكاريكاتير فغيَّرته بل وغيَّرت مفاهيم والده الذي كان يحلم أن يتخرج ابنه من كلية الحقوق ليصبح خليفة له ولكن الأب الذي وصل إلي قمة الهرم القضائي لم يتصور أن ابنه سيصبح جامعة - وليس كلية فقط - بمفرده يتخرج منها المبدعون علي مر العصور.
لم يكن البيت وحده صاحب التأثير علي شخصية جاهين وموهبته لكن المدارس التي التحق بها تركت في نفسه أثرا كبيرا خاصة أن منظومة التعليم وقتها كانت ترعي النوابغ ولا تقف حائلا أمام قدراتهم طوال الوقت فقد كانت الروضة ثلاث سنوات قبل المرحلة الابتدائية التي كانت أربع سنوات بعدها يذهب التلميذ للمرحلة الثانوية والتي كانت خمس سنوات وقد قضي جاهين هذه السنوات متنقلا بين محافظة أسيوط التي التحق فيها بالروضة وعمره أربع سنوات ثم ذهب مع والده لمحافظة الفيوم واستكمل سنوات الروضة وبعدها عاد إلي القاهرة مرة أخري ليذهب لمدرسة الناصرية الابتدائية تلك المدرسة التي كانت عبارة عن قصر كبير أبوابه شاهقة الارتفاع ونوافذه ضخمة ومرتفعة لدرجة أن طولها يتجاوز بوابات بعض المدارس المنتشرة هذه الأيام وتلك المدرسة تقع في منطقة وسط البلد أي أنها تبعد أمتاراً قليلة عن ميدان التحرير وتطل علي أربعة شوارع أهمها وأكبرها شارع شامبليون الذي لا يعرف أحد من القاطنين فيه قصة هذا القصر، فعندما ذهبت إلي تلك المنطقة وجدت أن الناس لا يعرفون سوي أن هذه كانت مدرسة ولكن حصلت عليها وزارة الثقافة بعد أن كسبت قضية ضد وزارة التربية والتعليم منذ عامين باعتبار أنها مكان أثري وسيقوم المجلس الأعلي للآثار بترميمه ولكن حتي الآن لم يطرأ أي تغيير علي المبني الذي ترك الزمن بصمة واضحة عليه فالأسوار لم يبق منها سوي أطلال، خاصة أن السادة مرشحي المجالس النيابية يضعون لافتاتهم علي هذا المكان الأثري أما الأبواب والشبابيك فقد أصبحت متهالكة وبعضها سقط لكن الحارس الذي تركه المجلس الأعلي للآثار والذي يدعي «النجار» لم يقل له أحد ما يجب أن يفعله إذا سقطت بعض النوافذ أو حتي متي سيتم ترميم هذا المبني! هذا علاوة علي أن حديقة المدرسة التي تقترب مساحتها من مساحات المدارس في القرن الحادي والعشرين لم يعد بها سوي بقايا أعشاب وأشجار كأنها بقيت لتنعي ذكري أيام مضت، تدخل بها دائرة اهتمامات وزارة الثقافة التي اكتشفت أن «مدرسة الناصرية «كانت قصرا لأحد أحفاد محمد علي باشا وهو الأمير «سعيد حليم» وذلك رغم تأكيد شقيقة جاهين أنها كانت بيت «كليبر» أحد قادة الحملة الفرنسية علي مصر.
تلك المدرسة التحق بها جاهين وهو في سن السادسة أي عام 1936 عندما وقَّعت مصر معاهدة التحالف مع بريطانيا والتي كانت تقضي بين بنودها بالسماح بزيادة أعداد الضباط المصريين في الجيش بعد أن كان مقصورا علي الشركس وأبناء الطبقات الراقية ليدخل إلي الكلية الحربية الزعيم «جمال عبدالناصر» ورفاقه قادة ثورة يوليو في الوقت الذي يدخل في جاهين مدرسة «الناصرية» ويظل بها لمدة ثلاث سنوات ولم يكن أحد يتخيل وقتها أنه بعد 20 عاما بالتمام والكمال أن هذه الدفعة هي التي ستكون علي يديها نهاية الاحتلال البريطاني لمصر «وستكون أشعار تلميذ مدرسة الناصرية وقودا «لناصر 56» ولكن لم يستمر جاهين طويلا بتلك المدرسة نظرا لطبيعة عمل والده الذي انتقل معه إلي شبين الكوم ليلتحق بمدرستها الابتدائية، ثم يعود مرة أخري لأحضان محافظة أسيوط وتحديدا لشارع «ممتاز» الواقع بين شارعي «الخزان» و«البحر» ليستكمل تعليمه في مدارسها ما بين عامي 1939 إلي 1945 «تلك الأعوام التي دارت خلالها أحداث الحرب العالمية الثانية بين دول المحور والحلفاء» ويحصل جاهين علي الشهادة الابتدائية ويتفنن في إبراز مواهبه فيقف في مدرسة أسيوط لأول مرة علي المسرح ويمارس هوايته في التمثيل التي تركها فيما بعد، لأن والدته كانت تخشي أن يصبح «مشخصاتي» فمنعته من التمثيل!
ويترك أسيوط ويتجه مع والده نحو المنصورة ليستكمل رحلته مع التعليم الثانوي ويسخِّر كل طاقاته للإبداع بالفُرَش والألوان وفي تلك الأثناء يخفق قلبه لأول مرة بحب إحدي قريباته لكنه عندما أبلغ أسرته أنه يريد أن يتزوجها عندما يكبر رفض والداه وأقنعاه أنها لا تناسبه، لأنها أكبر منه بأربع سنوات فقد كان عمره 14 عاما وهي في الثامنة عشرة من عمرها واستجاب لهما وتركها لكن قلبه دق ثانية بحب بنت الجيران «سحر» التي رآها في السنة النهائية في الثانوية في العمارة المقابلة لهم في طنطا وقد كانت بمثابة أول حب حقيقي في حياته وأراد أن يرتبط بها بعد أن ظل سنوات متعلقا بها لكنها قالت له في آخر لقاء جمع بينهما لابد أن تحصل علي شهادة جامعية، لأني لا أستطيع إقناع والدي بك وأنت لا تحمل شهادة فردَّ عليها جاهين قائلا «هتعرفي في يوم من الأيام إني أكبر من أي شهادة» وتركها ليكتب قصيدة الوداع التي لم تنشر من قبل والتي حصلنا عليها بخط يده وقد كتبها باللغة العربية الفصحي تحت عنوان

«مغيب الشمس» وقال فيها:
عندما كانت خيوط الذهب.. ناسلات من رداء السحب
وواحمرار الشمس يزجي عجبي.. إذ أراه ساطعا كاللهب
كنت ألفي قبلها حبي يغيب
فكما اقبل حبي أقبلت..وعلي حال الفؤاد استرسلت
كان حبي خجلا فاشتعلت.. باحمرار وكأن خجلت
هل تري الشمس رأت وجه الحبيب ؟

هنا بدأ الخوف يتسلل إلي نفس والده المستشار الذي كان يخشي أن يفشل ابنه ويرسب في الامتحان بسبب الشعر والرسم فدخل إلي غرفة جاهين، وألقي بالفرش والألوان من نافذتها ليصرخ الابن العاشق للرسم ويثور علي والده ويقول «الفرش والألوان دول يقربوا لي أكتر منكم» بل ويصل الأمر إلي أنه يصاب ببعض أعراض الاكتئاب ويقرر عدم الذهاب للامتحانات، ويقول لوالدته «مش فارقة كتير» لكنها تحاول احتواء الموقف وتقول بنبرة حزن أم - تخشي علي مستقبل ابنها- «بلاش حكاية كله زي بعضه ومش فارقة كتير» لأنك لازم تدخل الامتحان وافعل ما تريد بعد ذلك وبالفعل يدخل «جاهين» امتحان الثانوية ويحصل علي الشهادة التي ينهي بها مرحلة تعليمه الأساسي التي كتب في أثنائها قصيدة يصف فيها مقتل طالبين عام 1946 علي كوبري عباس بقوله:
كفكفت دمعي فلم يبق سوي جلدي.. ليت المراثي تعيد المجد للبلد
لو كان للدمع جدوي كنت أسكبه.. لكن متي كان للتضليل أن يفد
فلنترك الحزن ولنعمل لنهضتنا.. ولنجعل الشعب فوق المال والولد
ولنعط مصرا دماء القلب تضحية.. ولنطرد الغاصب الشرير نستفد
مصر التي انتمو فيها شبيبتها.. تدعوكمو أن أغيثوها من الفهد

كانت تلك القصيدة الفصحي وداعا لحياة التلامذة التي وصفها بعد سنوات بقصيدة قال فيها «يا عم حمزة إحنا التلامذة .... جن وبلاوي مسيحة من غير مؤاخذة» لينتقل جاهين إلي مرحلة أخري من حياته هي أيام الجامعة.

[هشام زايد]

بااااااااااااااااااااااارك الله فيك اخي

[tiger2000]

مشكور اخي الغالي