مَنْ صَدَقَ فِي قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَجَا مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكَلِمَةِ، فَلِقِلَّةِ صِدْقِهِ فِي قَوْلِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِذَا صَدَقَتْ طَهَّرَتِ الْقَلْبَ مِنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَمَتَى بَقِيَ فِي الْقَلْبِ أَثَرٌ لِسِوَى اللَّهِ، فَمِنْ قِلَّةِ الصِّدْقِ فِي قَوْلِهَا
مَنْ صَدَقَ فِي قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَمْ يُحِبَّ سِوَاهُ، وَلَمْ يَرْجُ إِلَّا إِيَّاهُ, وَلَمْ يَخْشَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهُ, وَلَمْ يَتَوَكَّلْ إِلَّا عَلَى اللَّهِ, وَلَمْ يُبْقِ لَهُ بَقِيَّةً مِنْ آثَارِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ .
وَمَعَ هَذَا فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ الْمَرَادَ أَنَّ الْمُحِبَّ مُطَالَبٌ بِالْعِصْمَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطَالَبٌ كُلَّمَا زَلَّ أَنْ يَتَلَافَى تِلْكَ الْوَصْمَةَ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُحِبُّ الْعَبْدَ حَتَّى يَبْلُغَ مِنْ حُبِّهِ لَهُ أَنْ يَقُولَ: اذْهَبْ فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ يَضُرّهُ ذَنْبُهُ
وَتَفْسِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ عِنَايَةٌ بِمَنْ يُحِبُّهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَكُلَّمَا زَلَقَ ذَلِكَ الْعَبْدُ فِي هُوَّةٍ أَخَذَ بِيَدِهِ إِلَى الِاعْتِذَارِ، وَيَبْتَلِيهِ بِمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ لِمَا جَنَى
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: يَقُولُ اللَّهُ: أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي, وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُيَئِّسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي، إِنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ، أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ لِأُطَهِّرَهُمْ مِنَ الْمَعَائِبِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ « الْحُمَّى تُذْهِبُ الْخَطَايَا كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ الْخَبَثَ »1 وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ « أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَعَلَ يُلَاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ مَهْ فَإِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ الشِّرْكَ وَجَاءَ بِالْإِسْلَامِ، فَتَرَكَهَا وَوَلَّى، فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ خَلْفَهُ وَيَنْظُرُ إِلَيْهَا حَتَّى أَصَابَ وَجْهُهُ حَائِطًا، فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِالْأَمْرِ فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ ذَنْبَهُ حَتَّى يُوَافِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »2 .
يَا قَوْمُ! قُلُوبُكُمْ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا أَصَابَهَا رَشَاشٌ مِنْ نَجَاسَةِ الذُّنُوبِ، فَرُشُّوا عَلَيْهَا قَلِيلًا مِنْ دَمْعِ الْعُيُونِ، وَقَدْ طَهُرَتْ
اعْزِمُوا عَلَى فِطَامِ النُّفُوسِ عَنْ رَضَاعِ الْهَوَى، فَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ .
مَتَى طَالَبَتْكُمْ بِمَأْلُوفَاتِهَا، فَقُولُوا لَهَا، كَمَا قَالَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ، الَّذِي دُمِيَ وَجْهُهُ قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ بِالشِّرْكِ وَجَاءَ بِالْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ يَقْتَضِي الِاسْتِسْلَامَ وَالِانْقِيَادَ لِلطَّاعَةِ
ذَكِّرُوهَا مِدْحَةُ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾3 فُصِّلَتْ لَعَلَّهَا تَحِنُّ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ, عَرِّفُوهَا اطِّلَاعَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهَا مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، لَعَلَّهَا تَسْتَحِي مِنْ قُرْبِهِ وَنَظَرِهِ: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾4 الْعَلَقُ 14، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾5 الْفَجْرُ: 14 .
رَاوَدَ رَجُلٌ امْرَأَةً فِي فَلَاةٍ لَيْلًا فَأَبَتْ، فَقَالَ لَهَا: مَا يَرَانَا إِلَّا الْكَوَاكِبُ، قَالَتْ: فَأَيْنَ مُكَوْكِبُهَا؟
أَكْرَهَ رَجُلٌ امْرَأَةً عَلَى نَفْسِهَا، وَأَمَرَهَا بِغَلْقِ الْأَبْوَابِ، فَفَعَلَتْ، فَقَالَ لَهَا هَلْ بَقِيَ بَابٌ لَمْ تُغْلِقِيهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، الْبَابُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ, فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا .
رَأَى بَعْضُ الْعَارِفِينَ رَجُلًا يُكَلِّمُ امْرَأَةً، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَرَاكُمَا، سَتَرَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمَا!
سُئِلَ الْجُنَيْدُ بِمَ يُسْتَعَانُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ؟ قَالَ: بِعِلْمِكَ أَنَّ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْكَ أَسْبَقُ مِنْ نَظَرِكَ إِلَى مَا تَنْظُرُ
وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: الْمُرَاقَبَةُ عِلْمُ الْقَلْبِ بِقُرْبِ الرَّبِّ
كُلَّمَا قَوِيتِ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ قَوِيَ الْحَيَاءُ [ مِنْ قُرْبِهِ وَنَظَرِهِ] .
وَصَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا أَنْ يَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ كَمَا يَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ صَالِحٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ لَا يُفَارِقُهُ .
قَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتَحِ مِنَ اللَّهِ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ، وَخِفِ اللَّهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ
كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا خَطَوْتُ خُطْوَةً لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا نَظَرْتُ إِلَى شَيْءٍ أَسْتَحْسِنُهُ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ-عَزَّ وَجَلَّ