بلوغ المرام
من
ضوابط تفسير الرؤى والأحلام
- السبائك الذهبية في ضوابط تفسير الرؤى والأحلام في الكتاب والسنة النبوية –
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه بعض الضوابط والمعاقد لتفسير الرؤى والأحلام لخصتها وجمعتها من شرح كتاب التعبير من فتح الباري للحافظ إبن حجر العسقلاني
سائلا الله أن ينفع بها
1. معنى التعبير:
التَّعْبِير خَاصّ بِتَفْسِيرِ الرُّؤْيَا وَهُوَ الْعُبُور مِنْ ظَاهِرهَا إِلَى بَاطِنهَا وَقِيلَ النَّظَر فِي الشَّيْء فَيَعْتَبِر بَعْضَهُ بِبَعْضٍ حَتَّى يَحْصُل عَلَى فَهْمه حَكَاهُ الْأَزْهَرِيّ ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الرَّاغِب.
2. ضبط كلمة "عبرت" :
يُقَال عَبَرْت الرُّؤْيَا بِالتَّخْفِيفِ إِذَا فَسَّرْتهَا وَعَبَّرْتهَا بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ .
3. سبب التخليط في أمر المنامات :
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : سَبَب تَخْلِيط غَيْر الشَّرْعِيِّينَ إِعْرَاضُهُمْ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاء مِنْ الطَّرِيق الْمُسْتَقِيم ،
وَبَيَان ذَلِكَ أَنَّ الرُّؤْيَا إِنَّمَا هِيَ مِنْ إِدْرَاكَات النَّفْس وَقَدْ غُيِّبَ عَنَّا عِلْمُ حَقِيقَتهَا أَيْ النَّفْس ،
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا نَعْلَم عِلْم إِدْرَاكَاتهَا ، بَلْ كَثِير مِمَّا اِنْكَشَفَ لَنَا مِنْ إِدْرَاكَات السَّمْع وَالْبَصَر
إِنَّمَا نَعْلَم مِنْهُ أُمُورًا جُمَلِيَّة لَا تَفْصِيلِيَّة .
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيّ فِي " الْمُفْهِم " عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَكًا يَعْرِض الْمَرْئِيَّات عَلَى الْمَحَلّ الْمُدْرَك مِنْ النَّائِم فَيَمْثُل لَهُ صُورَة مَحْسُوسَة ،
فَتَارَة تَكُون أَمْثِلَة مُوَافِقَة لِمَا يَقَع فِي الْوُجُود وَتَارَة تَكُون أَمْثِلَة لِمَعَانٍ مَعْقُولَة ،
وَتَكُون فِي الْحَالَيْنِ مُبَشِّرَة وَمُنْذِرَة ، قَالَ : وَيُحْتَاج فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ الْمَلَك إِلَى تَوْقِيف مِنْ الشَّرْع وَإِلَّا فَجَائِز أَنْ يَخْلُق اللَّه تِلْكَ الْمِثَالَاتِ مِنْ غَيْر مَلَك ،
قَالَ : وَقِيلَ إِنَّ الرُّؤْيَا إِدْرَاك أَمْثِلَة مُنْضَبِطَة فِي التَّخَيُّل جَعَلَهَا اللَّه أَعْلَامًا عَلَى مَا كَانَ أَوْ يَكُون .
4. رُؤْيَا الْأَنْبِيَاء وَحْي بِخِلَافِ غَيْرهمْ:
ذَكَرَ اِبْن الْقَيِّم حَدِيثًا مَرْفُوعًا غَيْر مَعْزُوٍّ ( إِنَّ رُؤْيَا الْمُؤْمِن كَلَام يُكَلِّم بِهِ الْعَبْدَ رَبُّهُ فِي الْمَنَامِ " وَوُجِدَ الْحَدِيث الْمَذْكُور فِي " نَوَادِر الْأُصُول لِلتِّرْمِذِيِّ ) مِنْ حَدِيث عُبَادَةَ بْن الصَّامِت أَخْرَجَهُ فِي الْأَصْل الثَّامِن وَالسَّبْعِينَ وَهُوَ مِنْ رِوَايَته عَنْ شَيْخه عُمَر بْن أَبِي عُمَر ، وَهُوَ وَاهٍ وَفِي سَنَده جُنَيْد ، قَالَ اِبْن مَيْمُون عَنْ حَمْزَة بْن الزُّبَيْر عَنْ عُبَادَةَ قَالَ الْحَكِيم :
قَالَ بَعْض أَهْل التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب ) أَيْ فِي الْمَنَام ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاء وَحْي بِخِلَافِ غَيْرهمْ ،
فَالْوَحْي لَا يَدْخُلهُ خَلَل لِأَنَّهُ مَحْرُوس بِخِلَافِ رُؤْيَا غَيْر الْأَنْبِيَاء فَإِنَّهَا قَدْ يَحْضُرهَا الشَّيْطَان ،
وَقَالَ الْحَكِيم أَيْضًا :
وَكَّلَ اللَّه بِالرُّؤْيَا مَلَكًا اِطَّلَعَ عَلَى أَحْوَال بَنِي آدَم كُلّ مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَيَنْسَخ مِنْهَا وَيَضْرِب لِكُلٍّ عَلَى قِصَّته مَثَلًا ، فَإِذَا نَامَ مَثَّلَ لَهُ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ عَلَى طَرِيق الْحِكْمَة لِتَكُونَ لَهُ بُشْرَى أَوْ نِذَارَة أَوْ مُعَاتَبَة ، وَالْآدَمِيّ قَدْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ الشَّيْطَان
لِشِدَّةِ الْعَدَاوَة بَيْنهمَا فَهُوَ يَكِيدهُ بِكُلِّ وَجْه وَيُرِيد إِفْسَاد أُمُوره بِكُلِّ طَرِيق فَيَلْبِس عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ إِمَّا بِتَغْلِيطِهِ فِيهَا وَإِمَّا بِغَفْلَتِهِ عَنْهَا ،
ثُمَّ جَمِيع الْمَرَائِي تَنْحَصِر عَلَى قِسْمَيْنِ :
الصَّادِقَة وَهِيَ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاء ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَقَدْ تَقَعُ لِغَيْرِهِمْ بِنُدُورٍ وَهِيَ الَّتِي تَقَع فِي الْيَقَظَة عَلَى وَفْق مَا وَقَعَتْ فِي النَّوْم ، وَالْأَضْغَاث وَهِيَ لَا تُنْذِر بِشَيْءٍ وَهِيَ أَنْوَاع :
الْأَوَّل: تَلَاعُب الشَّيْطَان لِيُحْزِن الرَّائِي كَأَنْ يَرَى أَنَّهُ قَطَعَ رَأْسه وَهُوَ يَتْبَعهُ أَوْ رَأَى أَنَّهُ وَاقِع فِي هَوْل وَلَا يَجِد مَنْ يُنْجِدهُ وَنَحْو ذَلِكَ ،
الثَّانِي: أَنْ يَرَى أَنَّ بَعْض الْمَلَائِكَة تَأْمُرهُ أَنْ يَفْعَل الْمُحَرَّمَات مَثَلًا وَنَحْوه مِنْ الْمُحَال عَقْلًا ،
الثَّالِث: أَنْ يَرَى مَا تَتَحَدَّث بِهِ نَفْسه فِي الْيَقَظَة أَوْ يَتَمَنَّاهُ فَيَرَاهُ كَمَا هُوَ فِي الْمَنَام وَكَذَا رُؤْيَة مَا جَرَتْ بِهِ عَادَته فِي الْيَقَظَة أَوْ مَا يَغْلِب عَلَى مِزَاجه وَيَقَع عَنْ الْمُسْتَقْبَل غَالِبًا وَعَنْ الْحَال كَثِيرًا وَعَنْ الْمَاضِي قَلِيلًا .
5. معنى قَوْله: ( الرُّؤْيَا الْحَسَنَة مِنْ الرَّجُل الصَّالِح )
قَالَ الْمُهَلَّب : الْمُرَاد غَالِب رُؤْيَا الصَّالِحِينَ ، وَإِلَّا فَالصَّالِح قَدْ يَرَى الْأَضْغَاث وَلَكِنَّهُ نَادِر لِقِلَّةِ تَمَكُّن الشَّيْطَان مِنْهُمْ ، بِخِلَافِ عَكْسهمْ فَإِنَّ الصِّدْق فِيهَا نَادِر لِغَلَبَةِ تَسَلُّط الشَّيْطَان عَلَيْهِمْ ،
قَالَ : فَالنَّاس عَلَى هَذَا ثَلَاث دَرَجَات :
الْأَنْبِيَاء وَرُؤْيَاهُمْ كُلّهَا صِدْق وَقَدْ يَقَع فِيهَا مَا يَحْتَاج إِلَى تَعْبِير ، وَالصَّالِحُونَ وَالْأَغْلَب عَلَى رُؤْيَاهُمْ الصِّدْق وَقَدْ يَقَع فِيهَا مَا لَا يَحْتَاج إِلَى تَعْبِير ،
وَمَنْ عَدَاهُمْ يَقَع فِي رُؤْيَاهُمْ الصِّدْق وَالْأَضْغَاث
وَهِيَ ثَلَاثَة أَقْسَام :
مَسْتُورُونَ فَالْغَالِب اِسْتِوَاء الْحَال فِي حَقّهمْ ،
وَفَسَقَةٌ وَالْغَالِب عَلَى رُؤْيَاهُمْ الْأَضْغَاث وَيَقِلُّ فِيهَا الصِّدْق ،
وَكُفَّار وَيَنْدُر فِي رُؤْيَاهُمْ الصِّدْق جِدًّا وَيُشِير إِلَى ذَلِكَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَأَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا " أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة .
وَقَدْ وَقَعَتْ الرُّؤْيَا الصَّادِقَة مِنْ بَعْض الْكُفَّار كَمَا فِي رُؤْيَا صَاحِبَيْ السِّجْن مَعَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَرُؤْيَا مَلِكهمَا وَغَيْر ذَلِكَ ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : رُؤْيَا الْمُؤْمِن الصَّالِح هِيَ الَّتِي تُنْسَب إِلَى أَجْزَاء النُّبُوَّة ، وَمَعْنَى صَلَاحهَا اِسْتِقَامَتهَا وَانْتِظَامهَا ، قَالَ : وَعِنْدِي أَنَّ رُؤْيَا الْفَاسِق لَا تُعَدّ فِي أَجْزَاء النُّبُوَّة ، وَقِيلَ تُعَدّ مِنْ أَقْصَى الْأَجْزَاء ، وَأَمَّا رُؤْيَا الْكَافِر فَلَا تُعَدّ أَصْلًا .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : الْمُسْلِم الصَّادِق الصَّالِح هُوَ الَّذِي يُنَاسِب حَالُهُ حَالَ الْأَنْبِيَاء فَأُكْرِمَ بِنَوْعٍ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الْأَنْبِيَاء وَهُوَ الِاطِّلَاع عَلَى الْغَيْب ، وَأَمَّا الْكَافِر وَالْفَاسِق وَالْمُخَلِّط فَلَا ، وَلَوْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ أَحْيَانًا فَذَاكَ كَمَا قَدْ يَصْدُق الْكَذُوب وَلَيْسَ كُلّ مَنْ حَدَّثَ عَنْ غَيْب يَكُون خَبَره مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة كَالْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّم . وَقَوْله " مِنْ الرَّجُل " ذُكِرَ لِلْغَالِبِ فَلَا مَفْهُوم لَهُ فَإِنَّ الْمَرْأَة الصَّالِحَة كَذَلِكَ قَالَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ .
6 معنى : ( جُزْء مِنْ سِتَّة وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة )
كَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيث...
فَحَصَلْنَا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَات عَلَى عَشَرَة أَوْجُهٍ أَقَلُّهَا جُزْء مِنْ سِتَّة وَعِشْرِينَ وَأَكْثَرُهَا مِنْ سِتَّة وَسَبْعِينَ ...
وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ كَوْن الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة مَعَ أَنَّ النُّبُوَّة اِنْقَطَعَتْ بِمَوْتِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقِيلَ فِي الْجَوَاب:
1. إِنْ وَقَعَتْ الرُّؤْيَا مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ جُزْء مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة حَقِيقَة وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْر النَّبِيّ فَهِيَ جُزْء مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة عَلَى سَبِيل الْمَجَاز .
2. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ الرُّؤْيَا تَجِيء عَلَى مُوَافَقَة النُّبُوَّة لَا أَنَّهَا جُزْء بَاقٍ مِنْ النُّبُوَّة .
3. وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّهَا جُزْء مِنْ عِلْم النُّبُوَّة لِأَنَّ النُّبُوَّة وَإِنْ اِنْقَطَعَتْ فَعِلْمهَا بَاقٍ ، وَتُعُقِّبَ بِقَوْلِ مَالِك فِيمَا حَكَاهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ أَنَّهُ سُئِلَ : أَيَعْبُرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَد ؟ فَقَالَ أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَب ؟ ثُمَّ قَالَ : الرُّؤْيَا جُزْء مِنْ النُّبُوَّة فَلَا يُلْعَب بِالنُّبُوَّةِ .
وَالْجَوَاب:
أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا نُبُوَّة بَاقِيَة وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتْ النُّبُوَّة مِنْ جِهَة الِاطِّلَاع عَلَى بَعْض الْغَيْب لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَكَلَّم فِيهَا بِغَيْرِ عِلْم .
وَقَالَ اِبْن بَطَّال :
كَوْن الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة مِمَّا يُسْتَعْظَم وَلَوْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ أَلْف جُزْء ،
فَيُمْكِن أَنْ يُقَال إِنَّ لَفْظ النُّبُوَّة مَأْخُوذ مِنْ الْإِنْبَاء وَهُوَ الْإِعْلَام لُغَة ، فَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى أَنَّ الرُّؤْيَا خَبَر صَادِق مِنْ اللَّه لَا كَذِب فِيهِ كَمَا أَنَّ مَعْنَى النُّبُوَّة نَبَأ صَادِق مِنْ اللَّه
لَا يَجُوز عَلَيْهِ الْكَذِب فَشَابَهَتْ الرُّؤْيَا النُّبُوَّةَ فِي صِدْق الْخَبَر
.